الطروادي الأخير حوارات مع محمود درويش

كان في مسار محمود درويش الشعري حوارات لا تنتهي، حاور القرية التي ولد فيها واندرست، وحاور روحه التي عشقت الوطن، ومنفاه، وأمه وأباه، وأصدقاء رحلوا، وحاور الصور الشعرية بإجتهاد لا إقتصاد فيه، وحاور نقاداً وصحفيين وأصدقاء، وكان موضوع حواره ما عاشه في الشعر وخارجه، وهو موضوع هذا الكتاب.

بدأ حواره الشعري مع رومانسيين سبقوه، وأبتعد عنهم ذاهباً إلى قصيدة أخرى، ولهذا وقف أمام قصيدة الغزل العربية القديمة واستعاض عنها بأخرى يعترف بها ويتجاوزها، وتأمل "المعلقّات الموروثة" وأضاف إليها معلقة خاصة به وحاور، وهو ينسج فضاءه الشعري الرحيب، اللاجئ والمقاتل والشهيد والشريد و"الهندي الأخير".

ولعل هذا الحوار الذي لا ينتهي، الصادر عن شغف بقصيدة مختلفة، هو الذي أفضى به إلى قصيدة كونية، تتجاوز الجغرافيا والتاريخ وتتكئ على روح إنسانية، تحلم "بالزنابق البيضاء"، وتشهد لقاء الحياة بالموت في "لعبة نرد" قاسية، أو تنتظر عزيزاً فلسطينياً عاد إلى بلده في "كفن".

لم ينطلق في نسيجه الشعري المتفرّد من "المتلقي"، ولا من القارئ الجاهز، ولا من "جماهيرية الشعر"، بل من متطلّبات الشعر، كما يجب أن تكون، محققاً صيغة غربية تصالح بين جمالية الشعر، وتحافظ على مقامه، و"جمهوره العام".

كان درويش في طموحه مخلصاً لتجربة الشعر، قبل أن يدرجها في تجربته، معترفاً "بأجداد شعريين"، يريد أن يعلّمهم بقدر ما تعلّم منهم، ويريد أن ينسج معهم "قصيدة لا تنتهي".

ولعل هذا التميّز، الذي لازم شاعراً لا يشبه غيره، هو ما جعل درويش ينفر من مصطلحات رائجة: "القصيدة الجماهيرية"، "الشعر التحريضي"، "شاعر المقاومة"... كما لو كان يتعامل مع الشعر من داخله، زاهداً بالتصفيق، ومع أنه كان في أقدار درويش، شاعراً وإنساناً، حضوراً للسياسة، وهو الذي قاسم شعبه منافيه وأحزانه، فقد كان له "سياسته في الشعر"، التي حاورت الشعر في تاريخه كله، ومايزت "الشعر البلاغي" من الشعر الصافي.

هذا كتاب عن بدايات درويش ونهاياته وما بينهما، يحتاجه قرّاء الشعر، ودارسو الشعر العربي الحديث، ومتأملو الأقدار الفلسطينية، وهؤلاء الذين يعقدون مقارنة بين المراحل الإبداعية المختلفة للشاعر الفلسطيني ومقارنة أخرى، أكثر تعقيداً بين تجربته الشعرية وتجارب آخرين، من شعراء عرب وشعراء لغات أخرى، أيضاً.